مرحباً بكم في صفحة وزارة الخارجية الألمانية
"الأمن لحرية حياتنا"
خطاب وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك في الفعالية الافتتاحية بشأن تطويراستراتيجية الأمن الوطني
المسافة من برلين إلى كييف أو بالأحرى إلى الحدود الأوكرانية هي تقريبًا نفس المسافة بين فلينسبورغ وفرايبورغ: عشر ساعات بالسيارة.
عشر ساعات، عادة ما نقود فيها السيارة هكذا بكل بساطة. ولكنها الآن عشر ساعات تفصل بيننا وبين السلم والحرب. غالبًا ما كان لأحد منّا أن يتصور ذلك أبدًا. نحن نشهد الآن حربًا عدوانية وحشية على بُعد عشر ساعات بالسيارة من هنا، في قلب أوروبا. حرب واقعية وقريبة ومريعة.
حينما قمنا بإدراج مسألة تقديم استراتيجية للأمن الوطني كبند من بنود اتفاقية تشكيل الائتلاف، ما كان بإمكان إلا القلة القليلة من المجتمعين اليوم هنا في هذه القاعة - بل وفي الواقع في جميع أنحاء العالم – أن يتصوروا ما يحدث الآن: الرئيس الروسي يشن هجومًا على جاره. إنه يخرج عن نظامنا السلمي في أوروبا. ويخرج عن ميثاق الأمم المتحدة الذي نمثل له.
يسألنا أطفالنا اليوم على مائدة الإفطار والغداء والعشاء إذا كانت الحرب ستطالنا في ألمانيا، ويسألون ما هي أصلاً الأسلحة النووية. في جميع أنحاء الجمهورية يخرج الناس إلى الشوارع ويتظاهرون منادين بالسلام والحرية والأمن.
نشعر بحنين ربما لم نشعر به منذ زمن بعيد؛ حنين قد يكون الناس من جيلي لم يعرفوه حقًا من قبل، فهو الحنين إلى الأمن. إنه حنين بشري دفين – لعلها الرغبة في اليقين عما ندافع عنه كلنا معًا: الأمن لحرية حياتنا.
وهذا ما تدور حوله استراتيجيتنا للأمن الوطني: الأمن لحرية حياتنا. يتألف هذا الأمن من ثلاثة عناصر أساسية وغير قابلة للتجزئة.
فالأمن يعني أولاً: حرمة حياتنا. الحماية من الحرب والعنف، ومن التهديدات الملحة والملموسة.
ويعني الأمن ثانيًا، حماية حرية حياتنا. والأمور التي ربما لم تطرأ على بالنا فعلاً حتى الآن. حرية حياتنا – ولكن ماذا تعني الحياة في حرية أصلاً؟ هذا ما نشعره الآن مجددًا في أوكرانيا: في جسارة الرجال والنساء الذين يدافعون عن بلادهم. وفي إصرارهم، نعي ما يدافعون عنه، ويجودون من أجله بحياتهم إذا اقتضى الأمر: إنها الديمقراطية وحقهم في أن يقرروا بأنفسهم بشأن الحياة في حرية.
والعنصر الثالث هو تأمين الأسس التي تقوم عليها حياتنا. فلا مجال للأمن حيثما تمحو الحرب سبل العيش – هذا ما نراه أيضاً وبشكل مريع في المدن الواقعة تحت الحصار الآن. ولا سيبل أيضًا للحياة الآمنة في حرية أينما تعرّض تبعات تغيّر المناخ والجوع والفقر ونقص الرفاه أيضاً الناسَ للصراعات والمعاناة - وهذا ما نلاحظه في جميع أنحاء العالم.
أمن حياتنا. سلامنا وحريتنا في أوروبا تسودها الديمقراطية. هذا ما تكرّسه استراتيجية الأمن الوطني الخاصة بنا.
يتعين علينا في هذا السياق تناول الأمن ليس من منظور الماضي بل بالنظر إلى المستقبل. ونريد أن نقوم بذلك – رغم الفظائع التي نشهدها حاليًا – ونحن متسلحون بالثقة بالنفس، ولكن أيضًا مع مراجعة النفس والنقد الذاتي إذا تطلب الأمر ذلك.
ونريد أن نصوغ تلك العملية بشكل واسع وتشاركي بمشاركة من الوزارات المختلفة في الحكومة الاتحادية، ومعكم أعزائي الزملاء والزميلات في البوندستاغ على نحو شامل لجميع الكتل الحزبية في البرلمان، وبتعاون مع العديد من الشركاء والشريكات المحليين والدوليين.
نقوم بذلك أيضًا لأن السياسة الأمنية هي أكثر من مجرد جيش زائد دبلوماسية. فعندما تكون الاستثمارات في البنية التحتية والسياسات التجارية شقًا من أمننا، فهذا يعني أيضًا أن القرارات بشأن الأمن لا تتخذ في وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع وحدهما، بل أيضًا في الشركات والبلديات وفي الجامعات.
إن هذه العملية هي في نظري عملية تشاركية من أجل رسم استراتيجيتنا، ولكنها تشكل أيضاً جوهر ماهية السياسة الخارجية بالنسبة لي وبالنسبة لوزارتنا بأسرها. فهي لا تقتصر على التواصل بين العواصم وبين الوزراء والوزيرات، بل أيضًا بين البشر. لأن الأمر يدور هنا حول الأمن البشري. وحول حرية كل فرد – لدينا وفي جميع أنحاء العالم.
لا يعني هذا الربط بين البشر ومد الجسور فيما بينهم فحسب، بل أيضًا – ولأن الحياة تتسم بالواقعية – التفكير خارج نطاق المعهود والتصرف البرغماتي وعدم الكدح فقط في سن البنود القانونية. ويعني بالنسبة لي ولنا جميعًا أن نكون على استعداد للإنصات إلى هموم ومصاعب الآخرين، والاستماع كذلك إلى وجهات نظرهم، وتسمية المعضلات بوضوح بدلاً من تجاهلها، والاستعداد أيضًا للنظر إلى الأشياء من منظور الطرف الآخر حتى وإن كنّا لا نتفق مع رأيه بتاتاً.
ينطبق التالي على استراتيجيتنا الأمنية: في ضوء قطيعة روسيا الهائلة لنظامنا السلمي، يجب أن نترجم المبادئ التي نسترشد بها إلى سياسات عملية بشكل واضح أكثر بعد.
من الحاسم بالنسبة لي في هذا الشأن:
اتخاذ موقف واضح
تعزيز القدرة على التصرف
شحذ أدوات السياسة الخارجية والأمنية
فيما يخص موقفنا: لقد أظهر لنا سلوك روسيا العدواني بشكل جلي أنه في القضايا التي تخص الحرب والسلم والقضايا التي تخص العدل والظلم لا يمكن لأي بلد ولا حتى لألمانيا أن تقف على الحياد. على مدار الأسابيع القليلة الماضية كُتِبَ الكثير عن تاريخ بلادنا وعن المسؤولية الألمانية. وأنا أقول هنا وبكل وضوح: نعم. تنبثق عن تاريخنا وعما اقترفته ألمانيا من ذنب في الحرب والإبادة الجماعية بالنسبة لنا، وبالفعل بالنسبة لي مسؤولية خاصة، ألا وهي الالتزام بالوقوف إلى جانب أولئك الذين تتعرض حياتهم وحرياتهم وحقوقهم إلى التهديد.
لذا، أود أن استشهد مرة أخرى بديسموند توتو: "إذا وقفت على الحياد في حالات الظلم، فقد اخترت الوقوف إلى جانب الطرف المتعسف."
ينطبق ذلك على تعاملنا مع روسيا. بل وينطبق أيضًا على تعاملنا مع الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية الأخرى التي تضع الحرية والديمقراطية والأمن موضع الشك وتنتهك قواعدنا الدولية.
وأنا أعتقد أننا – حتى في هذه الأيام بالغة الصعوبة والتي نضطر فيها لاتخاذ قرارات في غضون ساعات قليلة – يجب علينا التبصر مرارًا وتكرارًا وتوخي الحذر لكيلا نكرر أخطاء الماضي قائلين بوجود حكام ديكتاتوريين طيبين وآخرين خبثاء. كلا، يجب علينا أن ندافع عن قيمنا ومواقفنا في جميع أرجاء العالم. يعني هذا بالطبع أنه يجب علينا - وهذا بالضبط ما يقوم به عديد من المجتمعين في هذه القاعة منذ سنوات وعقود - أن نتحاور أيضًا مع الأنظمة المستبدة. مع أولئك الذين لا يتفقون معنا في الموقف على الإطلاق. فالحوار هو جوهر الدبلوماسية. من الأساسي هنا ألا ندع أحدًا يفرض علينا التزام الصمت أو تقبّل أمور مرفوضة لأننا في علاقة تبعية اقتصاديًا أو فيما يتعلق بسياسات الطاقة. بل، أن نتخذ موقفًا أيضًا فيما يتعلق بمسائل كموضوع النفط أو فرض الحظر في مجالات أخرى حاليًا، وإن كان هذا صعبًا علينا. أن نتخذ موقفًا في سبيل الأمن لحرية حياتنا.
لنحقق ذلك، يجب أن نكون قادرين على التصرف – وهذه هي نقطتي الثانية. تكمن قوتنا في تكاتفنا دوليًا. وهذا هو بالتحديد ما نتصدى به معًا لعدوان بوتين. فبحزم قمنا في إطار الاتحاد الأوروبي بالرد معاً من خلال فرض أشد العقوبات - حتى وإن كنا نتشاجر بضراوة في عديد من النقاط الأخرى. وكان هذا هو الحال أيضًا في إطار مجموعة الدول السبع وفي إطار حلف الناتو ومع الكثير من الدول الأخرى في جميع أنحاء العالم.
فهجوم روسيا على أوكرانيا يُعد من منظور جيوسياسي بمثابة قطيعة لها تداعيات عميقة على الأمن الأوروبي. يصوغ الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن استراتيجية أمنية سياسية وذلك بدقة غير مسبوقة. كان بلدنا، كانت ألمانيا قد سبق لها المبادرة بذلك قبل حين. هذه البوصلة الاستراتيجية - التي يتم التداول بشأنها الآن والتي سيتم بالطبع مواءمتها مرة أخرى على الأوضاع الحالية - يجب أن تستجيب للواقع الجديد في قارتنا وستقوم بذلك.
وفي الوقت ذاته – وهذا ما سيتم ترسيخه أيضًا في إطار هذه الاستراتيجية أو البوصلة الاستراتيجية - تُظهر هذه الحرب مرة أخرى أن أمن أوروبا يعتمد على الدفاع داخل إطار حلف الناتو. ومن ثم، ينبغي على هذه البوصلة الاستراتيجية أن توجه السياسات الأمنية والدفاعية للاتحاد الأوروبي في اتجاه مُكمّل لسياسات الناتو، وتعزز بالتالي الركيزة الأوروبية للحلف عبر الأطلسي، وتوسّع نطاقها. وبذلك يجب علينا التركيز على تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية. ليس لمجرد القيام "بالمزيد"، وإنفاق المزيد من المال، بل لنصبح أكثر فعالية. يستخدم الاتحاد الأوروبي وحده ستة أضعاف ما تستخدمه الولايات المتحدة الأمريكية من نظم الأسلحة. علينا أن نتغلب على هذا التشرذم.
إن "زيادة دور الاتحاد الأوروبي" لا تعني من المنظور السياسي الأمني "التقليل من دور الحلف عبر الأطلسي". توضح حرب بوتين العدوانية لنا أنه يتعين علينا مواصلة تطوير رؤيتنا المستقبلية بشأن الدفاع داخل إطار التحالف. يطالبنا حلفاؤنا - وهذا ما شعرنا به بوضوح - بأن نضطلع بدور الريادة في هذه العملية بصفتنا أكبر اقتصاد قومي في أوروبا.
سيضع حلف الناتو في فصل الصيف مخططًا استراتيجيًا جديدًا لنفسه، وسوف يعتمده رؤساء الدول والحكومات في مدريد في نهاية شهر حزيران/ يونيو. ونحن نعلم اليوم ونناقش في هذه اللحظة بالتحديد أن منطق "سلك العثار" المتبع حتى الآن - والذي يشير إلى أنه من خلال أدنى حد من التواجد في دول البلطيق وبولندا يكون الهجوم على إحدى دول حلف الناتو هو بمثابة هجوم على الجميع - فإن هذا المنطق لم يعد كافيًا بشكله الحالي.
وعليه، يجب علينا بلورة ما قمنا به من تشديدات عبر الأسابيع القليلة الماضية لتستمر على المدى الطويل. كما يتعين على تدريباتنا العسكرية أن تعكس الواقع الجديد. علينا أن نأخذ في الحسبان حقيقة أن المنطقة الشرقية من التحالف بأسرها معرضة لتهديد جديد، وأنه يجب علينا بالتالي الترتيب لتواجد الناتو في دول جنوب شرق أوروبا. من أجل تحقيق ذلك، ستقدم ألمانيا مساهمة هامة في سلوفاكيا.
ثمة أمر آخر أظهرته الحرب لنا، ألا وهو أن قوة الردع النووية للناتو يجب أن تحافظ على كامل مصداقيتها. لذا، قررت الحكومة الاتحادية الآن شراء طائرات أف-35. ومع ذلك، يبقى هدفنا هو التوصل إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية. نريد أن نتباحث بشأن هذا الهدف مع شركائنا – في إطار معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. ومع أعضاء معاهدة حظر الأسلحة النووية كذلك بصفتنا مراقبين.
أرغب في إدارة حوار صادق بشأن تهيئة الظروف اللازمة لاتخاذ خطوات في اتجاه نزع السلاح. ولن يتحقق ذلك عن طريق توجيه مطالب أحادية الجانب تجاه شركائنا الغربيين في التحالف. فالخطوات الجادة نحو نزع السلاح لن تتحقق إلا باتخاذ كافة الدول الحائزة للأسلحة النووية خطوات ذات مصداقية. ونحن نعرف أيضًا - وهذا هو الأمر السيء في الوضع الحالي – أن بوتين يقوم حاليًا بعكس ذلك تمامًا مهددًا باستخدام الأسلحة النووية.
وعلى الرغم من ذلك، فنحن نقف على الجانب الصائب من القانون الدولي، وهذا لموقع قوة. لذا، فالأمر الجلي بالنسبة لنا والذي سيتم ترسيخه أيضًا في استراتيجية الأمن الوطني هو أن نزع السلاح وتحديد الأسلحة سيبقيان عنصرَين محوريَين في أمننا. يجب أن ننظر إلى نزع السلاح وتحديد الأسلحة باعتبارهما عاملان مكملان للردع والدفاع.
إذًا، فالأمر يدور هنا حول القدرة على الدفاع عن الذات في إطار التحالف. وهو أمر حاسم بالنظر إلى قدرتنا على التصرف. في نظري، تتضمن القدرة على الدفاع عن الذات الإمكانية والرغبة في الدفاع عن الذات على حد سواء. وأنا أعي أن هذه طالما كانت بالنسبة للناس في ألمانيا – وهذا ينطبق على العديد من الحضور في هذه القاعة وأنا لا استثني نفسي من هذا الأمر على كل حال - كلمات لا نتفوه بها بهذا القدر من البساطة. ولكني مقتنعة أن أمننا متعلق بقدرتنا على الدفاع عن أنفسنا. أمننا من أجل الحرية لحياتنا.
وعليه، فقد اتخذنا من خلال إنشاء الصندوق الخاص لتمويل قدرتنا الدفاعية خطوة هامة نحو تطوير قواتنا المسلحة بشكل أسرع وتجهيزها بالكامل و إنما أيضًا - وهذا أمر مهم – في سبيل تعزيز قدرتنا الجماعية في إطار التحالف. فمن المهم أن نعرّف القدرة على الدفاع عن الذات بشكل يواكب العصر. وليس بما يواكب القرن الماضي. إذ تلعب قضايا مثل المسائل السيبرانية وإنما أيضًا مسألة دعم الاستقرار دورًا محوريًا في هذا الشأن.
يجب علينا أن ننظر إلى الأمن من منظور مستقبلي. وإلا فإننا لسنا بحاجة لوضع استراتيجية أمنية جديدة. وهكذا، سوف تتناول استراتيجيتنا للأمن الوطني قضايا استراتيجية محورية لم نقم حتى الآن بمناقشتها بالقدر اللازم من التعمق في المجال السياسي، أو قد لا نكون تباحثنا فيها بالاستفاضة المطلوبة في أوروبا.
نرى الآن، وقد كانت هذه المسائل الاستراتيجية التي لازمتنا طوال الوقت في الماضي: هل ندافع عن أمننا بعيدًا عن هنا، عند سفح جبال الهندوكوش أو في أماكن أخرى؟ أم ندافع عنه هنا مباشرة على عتبات أبوابنا؟ نشهد اليوم في عالم متشابك ومترابط أن المسألة ليست مفاضلة، إما قريبًا وإما بعيدًا. بل إننا ندافع عن أمننا هنا على عتبات أبوابنا وعلى بعد عشر ساعات بالسيارة وفي أطراف العالم المتشابك على حد سواء.
نشهد هنا الآن وشهدنا في الأعوام الأخيرة أيضًا أن الحدود الفاصلة فيما بين التهديدات القادمة من الداخل وتلك الوافدة إلينا من الخارج تتلاشى كلياً في عالم تسوده الرقمنة. إلا أن تلك الخطوط الفاصلة مازالت مجودة لدينا وفي دستور بلادنا أيضًا. لذا، يجب علينا أن نسأل أنفسنا بكل صدق، وأنا على يقين من أن لا أحد هنا لديه الإجابة الواحدة الوحيدة عن سؤال: كيف نتعامل في المستقبل مع تلك الخطوط الفاصلة البالية؟
وبالنظر أيضًا إلى مبادرة الحزام والطريق، نرى أن الاستثمارات لها صلة بالأمن، وخصوصًا إذا كانت تتم في مجال البنية التحتية. في تعريفنا للسيادة الأوروبية أكدنا بوضوح وجلاء على التعاون دومًا حيثما أمكن والاعتماد على الذات دومًا عند اللزوم. ولكن الاعتماد على الذات لن يكون ممكنًا إلا إذا لم يكن المرء في علاقة تبعية تامة. هذا ما نلاحظه ليس فقط هنا في أوروبا، ولكن في جميع أنحاء العالم. في أفريقيا وأيضًا وبشكل خاص في منطقة المحيط الهادئ الهندي – عندما نتأمل في أي من الدول قامت الصين بالاستثمار بشكل كامل في مجال الإمداد بالكهرباء. ونرى عندها أيضًا أن القضايا المتعلقة بالسيادة والسلامة الإقليمية والقانون الدولي تطرح أنفسها بكل وضوح. لذا، فإننا لن نقوم في الأشهر المقبلة بوضع استراتيجية أمنية جديدة فحسب، بل أيضًا استراتيجية جديدة فيما يتعلق بالصين.
حضرات السيدات والسادة،
لن تتحقق قدرتنا على التصرف إلا من خلال قوة تحالفاتنا ومن خلال قدرتنا على الدفاع عن أنفسنا. غير أن القدرة على التصرف تعني كذلك ألا نكون تابعين لغيرنا أو معرضين للابتزاز في علاقاتنا الاقتصادية أو في مجال بالطاقة. هذا أيضًا ما توضحه هذه الحرب بكل ضراوتها.
على مدار السنوات الماضية قام الكثيرون من الحضور في هذه القاعة بالتأكيد مرة بعد الأخرى على إن الإمداد بالطاقة يُعتبر أيضًا مسألة أمنية. قبل ثمانية أعوام على وجه التحديد قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم في انتهاك للقانون الدولي. ولقد كنا في واقع الأمر نعرف قبل ثمانية أعوام بالفعل الكثير من الأمور التي نناقشها الآن مجددًا. فلم تقم أوروبا حينها - ويجلس بيننا البعض من البرلمان الأوروبي - دون سبب بطرح ومناقشة سؤال: ماذا عن التوجيهات بشأن إمدادات الغاز؟ وماذا يعني في الواقع مصطلح "فض الترابط" في مجال الطاقة؟ ماذا تعني كفاءة الطاقة والتفاعل المتبادل بين الطاقة والمناخ والقضايا الاقتصادية؟ أدير هذا الحوار في عدد كبير جدًا من المراكز البحثية - وبيننا اليوم بعض ممثليها.
والمأساة في ذلك هي أننا كنا نعرف كل هذا في واقع الأمر ولكن الأمر تبعثر وتطاير. لذا، فلن يفيدنا اليوم شيئًا أن نتساءل: من منّا كان يعرف شيئًا في الماضي ومن قال شيئًا. فهذا أمر مضى لا ينفع الندم عليه. يدور الأمر الآن حول اتخاذ الخطوات السليمة أخيرًا. ولذلك، فمن الضروري أن تبذل وزارتا الاقتصاد والطاقة الاتحاديتان كل ما في وسعهما وبأقصى سرعة وطاقة من أجل تحريرنا من الاعتماد على واردات الطاقة الأحفورية. من روسيا بالذات، ولكن دون الانزلاق في تبعية جديدة من بلدان أخرى، بل من خلال التحلّي بالسيادة الخاصة فيما يخص سياسات الطاقة. علمًا بأننا نحتاج دوماً لاستيراد الطاقات الخضراء أيضًا.
مما لا شك فيه إنه يجب أن نتوجه بعيدًا عن الوقود الأحفوري وبشكل أسرع نحو الطاقات المتجددة والأكثر كفاءة. تلك الاستثمارات لا تصب في صالح الطاقة النظيفة وحدها، بل إنها استثمارات في أمننا وبالتالي أيضًا في حريتنا.
وبذلك نكون قد وصلنا إلى القضية الرئيسية للسياسة الأمنية في عصرنا هذا، ألا وهي: أزمة المناخ. وليس بمنافسة أو مزاحمة للتحديات التي تشكلها قضايا الحرب والسلم، بل من خلال التفاعل فيما بينهما. يشكل هذا التحدي الأضخم، إذ أن الأسس التي يرتكز عليها أمن حياتنا لن تتوفر لنا إلا إذا تمكنا من السيطرة على أزمة المناخ. وأنا أقول هنا بكل وضوح "السيطرة عليها" وليس "وقفها". فلن يمكننا الآن وقف احترار الأرض. لقد وصل احترار الأرض الآن بالفعل إلى ما يزيد عن درجة واحدة مئوية. لذا فالأمر لا يدور هنا حول "التخفيف من الآثار" فحسب. بل إن الأمر يدور لأسباب تتعلق بالسياسة الأمنية – وهذا ما ستدفع به جينيفر مورغان وكثيرون آخرون في وزارتنا بالتعاون مع الوزارات الأخرى - حول التكييف و"الخسائر والأضرار" لنتمكن في ضوء احترار الأرض من إيصال الدول الأشد ضعفًا إلى بر المستقبل بأمان.
ولأننا نراقب كيف تواصل أزمة المناخ تقويض الأمن لا سيما في الدول الضعيفة. ونحن نراقب ذلك في جميع أنحاء العالم، ونراقبه بشكل خاص في منطقة الساحل الإفريقي حيث تزيد ظواهر الطقس المتطرفة وانعدام الأمن الغذائي والهجرة من حدة الصراعات بين الدول. وليس من قبيل المصادفة أن يستغل الجهاديون وتستغل الجريمة المنظمة هذه الهشاشة كثغرة لتحقيق مطامعها في تقلد السلطة وفرض كراهيتها ضد البشر وتهديد الأمن ليس فقط هناك، بل أمننا نحن هنا في أوروبا أيضًا. لذلك، تُعتبر السياسات الخارجية في مجال المناخ جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيتنا الأمنية. كل طن نوفره من ثاني أكسيد الكربون، كل عشر درجة مئوية نوفرها من احترار الأرض هي مساهمة في أمن البشرية.
يعني هذا أنه يجب أن نتصدى وبشكل مكثف لتبعياتنا الاقتصادية. فطالما كانت القاعدة الأساسية، أنه كلما زاد التضافر الاقتصادي كان هذا أفضل. إلا أننا نرى الآن كيف يجعلنا التوجه الاقتصادي أحادي الجانب معرضين لمواقف ضعف. وليس هذا فقط فيما يتعلق بروسيا. ولذا، يجب علينا حينما نتطرق إلى فكرة التواصل وعندما نتناول علاقات التبعية، أن نفكر بصفة خاصة في العلاقات التي تربط الأشياء بعضها. فالأمر لا يسير على منوال: هذه هي السياسة التجارية. وتلك هي سياسة البنية التحتية. وهناك في الخلفية السياسة الخارجية والسياسة الأمنية. كلا، فكل تلك الأشياء متصلة ببعضها البعض.
إن قابلية التعرض للخطر في القرن 21، قد تنشأ عن قيام إحدى الدول الاستبدادية باستثمار مليارات من اليورو في الطرق السريعة والشوارع وشبكات الكهرباء والموانئ الأوروبية. لذلك، نقوم معًا في إطار الاستراتيجية الأمنية ومن خلال هذه الحكومة الاتحادية بشحذ أدواتنا في مجال الاقتصاد الخارجي. وهذا هو لب السياسة الخارجية المبنية على القيم. إن السياسة الخارجية المبنية على القيم تعني الدفاع عن القيم وفي الوقت ذاته عن المصالح - الاقتصادية منها أيضًا. ذلك لأن كلا الأمرين يرتبطان ببعضهما البعض بشكل وثيق.
وبذلك أصل إلى نقطتي الثالثة، ألا وهي أدواتنا السياسية الخارجية والأمنية. فتلك الأدوات لا تقتصر على الأمن الدفاعي. هناك مسائل أخرى فضلاً عن الجيش. إذا كنا نرغب في إثبات مكانتنا عالميًا في سباق قياس القوى للقرن 21، فيجب علينا أن نجعل أدواتنا كلها مواكبة للعصر – عسكريًا وسياسيًا وتناظريًا ورقميًا وتكنولوجيًا. ويجب أن نصل إلى الإلمام بالأمن بمفهومه الشامل وذلك دون أن نفقد الدقة بشكل كامل.
لديّ قناعة راسخة بأن مشاركتنا الألمانية واسعة النطاق عالميًا على مدار السنوات والعقود الماضية – سواء من خلال الدبلوماسية أو منع نشوب الأزمات أو عبر السياسة الثقافية الخارجية أو عن طريق الرياضة أو العمل التربوي أو التعاون في الدعم الإنمائي - هي أيضًا كلها بمثابة مساهمة حاسمة في أمننا. لأن ما نقوم به يمثل ألمانيا، وينظر إليه بكل هذا التنوع.
لقد رأينا ذلك في الأيام القليلة الماضية، حيث استطعنا إقناع دول أخرى لم تكن واثقة تمامًا بشأن موقفها من اتخاذ موقف واضح، وذلك ليس فقط من خلال ذكر أن الأمر يدور حول منظومة السلم الأوروبية، وحول القانون الدولي. بل أيضًا لأننا نتمتع بقدر من الثقة القائمة على سنوات طويلة من الدبلوماسية والعلاقات الطيبة ومن خلال الإنصات والقدرة على النقد الذاتي. ليس في كل مكان ولكن في أماكن عديدة من هذا العالم. وهذا ما تعود به علينا السياسات الخارجية الألمانية الشاملة ومتعددة الأطراف.
أعتقد أننا جميعًا وأنا شخصيًا بدوري كوزيرة الخارجية الألمانية الجديدة ممتنون لذلك. وتلك هي أيضًا المهمة التي كُلفنا بها، ألا ننسى تلك الجهود الآن، بل أن نواصل تعزيزها وتوسيعها في المستقبل. الدبلوماسية والعمل الثقافي والتعليم والرياضة والوساطة في الأزمات – تلك الالتزامات مصممة لتمتد على مدار فترة طويلة وعلى نطاق واسع، بحيث لا نجني النجاحات منها بالفعل في اليوم التالي – إن تلك هي أيضًا استثمارات في أمننا كلنا.
إذ يجب أن تكون إجاباتنا على الأزمات بنفس القدر من التعقيد الذي تتصف به الأزمات نفسها. فمع الانقطاع الهائل للإمدادات - وسيكون هذا أمرًا شديد الحدة لأن أوكرانيا لن تستطيع إمداد دول من ضمنها دول أفريقيا بالحبوب وبمواد كثيرة أخرى، مما يشدد من حدة التهديد بالموت جوعاً للبشر هناك ويزيد بالتالي من خطر اندلاع صراعات جديدة، وكذلك خطر انتشار الروايات الكاذبة.
لذلك يجب علينا أن نقوم الآن في ظل تلك الأوضاع الحادة وفي إطار إستراتيجينا للأمن الوطني بالتعاطي مع الأوضاع مستخدمين حزمة واسعة من الأدوات التي تشمل الدبلوماسية وتعزيز السلام وإرساء الاستقرار والتعاون الاقتصادي والدعم المالي والجوهري الموجه نحو البلدان والمنظمات الدولية.
وينطبق على هذا الأمر أيضًا أن الكثرة لا تعني تلقائيًا الجودة. يتعين علينا أن نسأل أنفسنا هنا أيضًا وبكل صدق: ما مدى فعالية وسائلنا وكيف تساهم في إرساء الاستقرار في المناطق وفي ضمان أمننا نحن. وأعتقد أننا نتفق جميعًا على أن أسلوب التوزيع غير الدقيق للموارد هو بكل تأكيد ليس الأسلوب الأكثر كفاءة. فإن كنت كوزيرة جديدة لا أعرف بالضبط بعد ما المجالات التي تدعمها الوزارات الأخرى في بلد محدد، فذلك كما يبدو ليس صدفة للأسف، بل إنه يكشف عن مدى حاجتنا للتنسيق فيما بيننا بشأن التعاون في مجالات السياسات الخارجية والاقتصادية وسياسات الطاقة والسياسات الإنمائية.
هذا ما حددناه في اتفاقية الائتلاف تحت عنوان السياسة الخارجية المتسقة. وسيكون أحد محاور هذه الاستراتيجية الأمنية أيضًا أن ننسق التمويل الذي نقدمه فيما بيننا وألا نمضي فيه ضد بعضنا البعض.
حضرات السيدات والسادة،
القضايا المعقدة تحتاج إلى إجابات معقدة. وأنا قد أشرت في البداية بالفعل إلى أن التحدي الأكبر يكمن بالتأكيد في الفضاء السيبراني. فنحن نري أن المجال الإلكتروني أصبح جزءًا محوريًا في إدارة الحروب الحديثة. ونشهد في الآن ذاته أن أساليب إدارة الحرب المعروفة لنا حتى الأن والتي ظننا أن الزمن عفا عليها، يتم استخدامها. بيد أن التحدي الأكبر يكمن في أنها تأتي مصحوبة بالحرب السيبرانية أو الحرب الهجينة.
أما الآثار غير المباشرة التي قد ينطوي عليها ذلك فلم يلح منها أمامنا حتى الآن إلا البوادر. ونشهد ذلك الآن أيضًا مع الهاكتيفيست (النشطاء من قراصنة شبكات المعلومات) والذين من شأنهم تأجيج هذا الصراع. ولا ندري عندها بالمرة من هو الطرف الفاعل في واقع الأمر؟ إن ما كان يشكله الهجوم على خط غاز بقنبلة أو صاروخ في الماضي، حل محله اليوم الاختراق الإلكتروني للمستشفيات. وليزداد الأمر صعوبة، قد يحدث ذلك في ستة أماكن مختلفة من ولاياتنا الاتحادية الستة عشر. على من تقع المسؤولية عندها؟ على عاتق الجيش الاتحادي أم الشرطة الجنائية الاتحادية أم الولايات الاتحادية المختلفة – فنحن لا نعرف بالفعل إذا كان ذلك بمحض الصدفة أم إنه هجوم؟
إن هذه التهديدات تكشف أننا لسنا فقط بحاجة إلى تقوية قدراتنا على التصدي للهجمات السيبرانية، ولكن أيضًا أننا يجب أن نتناول موضوع توزيع الصلاحيات فيما بين الجيش الاتحادي والهيئات الأمنية الوطنية، وفيما بين الحكومة الاتحادية والولايات كجزء من عملنا في إطار وضع استراتيجية الأمن الوطني.
سيداتي وسادتي،
إن حرب بوتين التي تنتهك القانون الدولي تواجهنا بواقع جديد على صعيد السياسة الأمنية. ولكني أعتقد أنه من المهم أيضًا أن نؤكد على التالي: لم يصبح كل شيء جديدًا ومختلفًا فجأة. وإنما، يجب علينا أن نمعن النظر لملاحظة ما هو جديد. والتعرف على ما أحسنّا أداءه وما يتعين علينا مواصلته. من الواضح أن المهام التي سيضطلع بها جنودنا وجندياتنا مستقبلاً لن تظل من تلقاء نفسها بعيدة آلاف الكيلومترات عن فلنسبورغ أو فرايبورغ. ومع ذلك، تحتفظ تلك المهام أيضًا بأهميتها. وسنقوم بإعادة تعريف سياستنا الأمنية الآن تماشيًا مع ذلك.
وأنا أرى – كما ذكرت في مطلع حديثي، وخصوصًا لأن الأمر فيه تحديًا كبيرًا – أننا نستطيع أن نقبل على هذه العملية معًا وبثقة في أنفسنا. فقد تفاعلنا بحزم مع حرب بوتين في تعاون مع شركائنا وشريكاتنا كبلدان تسودها الديمقراطية الليبرالية. مع شركاء يشاركوننا القيم ذاتها ويعترفون ويلتزمون بها مثلنا. وأعني بذلك، أنه ليس الغرب وحده، ولكن تحالف الديمقراطيات الليبرالية في جميع أنحاء العالم. أولئك الذين يدافعون عن القانون الدولي وعن الديمقراطية وعن النظام الدولي المبني على القواعد.
وإذا كنا نريد أن نثبت أن الفكرة الليبرالية تتفوق قوة على الأنظمة الاستبدادية، فعلينا ترجمة مبادئنا بشكل أكثر فعالية إلى سياسات عملية: من خلال المواقف الواضحة، والتصرفات الحازمة، وباستخدام أدوات مرنة وفعالة ومواكبة للعصر.
سنتصرف بأسلوب رصين وبرغماتي. دون مبالغة في تبسيط الأمور وتصنيفها في فئتي الطيب والخبيث، بل بالشجاعة اللازمة لمعايرة وتقدير الأمور، والجسارة المطلوبة للتعاطي معها. مسترشدين في تلك المسيرة ببوصلة قيم واضحة من أجل الأمن لحرية حياتنا. من أجل سلامنا ومستقبل أبنائنا في أوروبا جامعة ديمقراطية.
ولكم مني جزيل الشكر.